السذاجة الرقمية

منذ أن أصبحت المنصات متاحة للجميع، لم تعد الأصوات تُسمع فقط، بل تُقاس… يُقاس تأثيرها بعدد الإعجابات، ويُقاس حضورها بكمية التفاعل، ويُعاد تصديرها بناءً على أكثر ما يُثير. وهكذا، تغيّرت نبرة التواصل، وظهر نوع جديد من الظهور المصنوع من الاستفزاز.
فهناك من لا يقدم محتوى بقدر ما يصنع ردّ فعل. فهو يختار كلماته بعناية، لا ليعبّر عن رأيه، بل لتثير فضولك ورأيك.
فلا يعنيه أن تختلف معه، بل يعنيه أن ترد. ولا يسعى للإقناع، بل للاستفزاز. وذلك لأنه يعرف أن الغضب أسرع من الإعجاب، وأنك حين تنفعل، تُشاهده مرتين وتُشاركه دون أن تنتبه أنك تمنحه بالضبط ما أراد.
والخطورة هنا لا تكمن في المحتوى، بل في الدافع. فحين يصبح كل ما يُقال مدروسًا ليجرك إلى الرد، يفقد الخطاب صدقه. وحين يتحول التعبير إلى فخّ نفسي مبني على استفزاز جمهور كامل، فلا عجب أن تتحوّل المنصة من مساحة تعبير… إلى ملعب للعب على الأعصاب.
لكن الوجه الآخر من كل ذلك لا يقل ضررًا. فهناك مَن يُعيد مشاركة هذه التفاهات لا بدافع الرفض، بل بدافع الترفع. فيشاركها وهو يعلّق متعجبًا من المستوى الذي وصل إليه مجتمع السوشيال وكأن نشر المهزلة مع تعليق ساخر يُعفيه من مسؤولية نشرها. وكأن نقد الشيء يمنحه الحق في تصديره مرّة أخرى، لكن هذه المرة بغلاف أخلاقي.
وفي الحقيقة، كلا الطرفين يقتات من بعضه. فالذي يستفزك يعرف أنك ستشاركه، والذي يعلّق عليه يعرف أنه بذلك يُظهر لنفسه كم هو مختلف وأفضل، لكن النتيجة واحدة وهي ضخ المزيد من هذا النوع من المحتوى، لأنه ناجح رقميًا… حتى لو فاشل إنسانيًا.
فالسوشيال ميديا لم تخلق هذا السلوك، لكنها منحته ساحة، وسرعة، وصدى. والمشكلة لم تعد فقط في من ينشر، بل فيمن يضخّم، ويعيد التدوير، وينشر مع غلاف استعلاء وهمي.
ومن يتعمد الاستفزاز لا يبحث عن قناعة، بل عن رقم. ومن يشارك المهزلة ليؤكّد لنفسه أنه فوقها… يشاركها هو الآخر لنفسه، لا لغيره.
والخيار في النهاية ليس في إيقاف هؤلاء، بل في وعي الردّ، وسرعة الامتناع. وأن تترك ما يُغضبك دون أن تمنحه وجبة إضافية من التفاعل. وأن تُدرك أن بعض المعارك لا تُربح بالرد، بل بالتجاهل الذي يُميت الجلبة في مهدها.
الكاتب / طارق محمود نواب
الجمعة 04 يوليو 2025م
للأطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )