المقالات

الفارسي مات!

علينا أن ندرك بأن بعض الكلمات أساس نجاحات تسطر بماء الذهب وأن الكلمة التي تصيب الهدف تغير الكثير، وتحقق ما لا يستطيع الآخرون تحقيقه.

حسناً إنني لم أكتب هذا العنوان للفت الأنظار أو جذب القرّاء وشد انتباههم، بل استلهمته من موقف إداري عظيم حصل بين قائد وأمير، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وذلك حين أرسل الفاروق أحد رجاله إلى بلاد الشام حيث كان معاوية واليًا عليها؛ ليتفقد الأمور في ديوان الإمارة وخارجه،  ويطلع على أحوال الرعية فيها، فقد نما إلى علم الخليفة بأن رجلًا من أصول فارسية كان ضمن العاملين في ديوان أمير الشام، وهو مسؤول عن الحسابات المالية والشؤون الخاصة التي تمس مصالح المسلمين،  فأرسل عمر إلى معاوية يسأله عن الخبر، فأجابه معاوية بأن ذلك لكفاءة فيه، وأنه متمكن من عمل كذا وكذا، كأنه يشير إلى تفرده بذلك وعدم كفاءة غيره، أو كأن لسان حاله يقول لم أجد أكفأ منه. فجاء رد أمير المؤمنين بكلمتين فقط، حيث كتب على ظهر جواب معاوية: (الفارسي مات!)، أي عليك أن تتخيل بأن ذلك الموظف الذي تعتقد بأنك لا تستغني عنه ولا يوجد غيره مات فماذا أنت فاعل؟ هل يبقى مكان العمل شاغرًا بلا موظف وتتعطل شؤون الناس؟ بالطبع لا. استوعب معاوية الدرس، وكانت هاتان الكلمتان ختام ما جرى الحديث من أجله، ومما لا شك فيه أن عمر رضي الله عنه لم يأمر بتغيير الموظف من باب العنصرية أو الجهل أو الكراهية -حاشاه-، ولكن لأن بين المسلمين وبلاد فارس عداوة ظاهرة، ما يحتم الاحتياط في مثل هذه الأحوال، خشية أن يكون ذلك الموظف مخبراً للفرس.

إن هذا الجواب منهج إداري يجب أن يدرس بشكل خاص، وهو منهج للإنسان في شتى المجالات بشكل عام يستحق أن يُعتمد عليه في مختلف مجالات الحياة.

إن الإدارة فن ومهارة، سواءً كانت غريزة فطرية، أو مهارة مكتسبة؛ لذا سأتحدث  عن تخصص الإدارة لأنه المركز الأساس الذي تسير به كافة الكيانات، كل بحسب سلطته ونفوذه، فعندما نرى اليوم بعض مُلاك الشركات أو مسؤولي الإدارات سواءً في القطاع الخاص أو العام أو أي من المهن في شتى سبل الحياة، تجد هذا المسؤول يركن بشكل كلي على ذلك الموظف في جميع مهام العمل ومسؤولياته الذي لولا قدر الله أصيب بشيء من ظروف الحياة أصبحت الإنجازات اليومية في  القطاع في الكثير من الأقسام معطلة حتى رجوع ذلك الموظف، وهذا مما يتسبب في انهيار بعض الكيانات العظيمة التي حظيت بتاريخ حافل من الإنجازات والنجاحات وجني المكاسب في الداخل والخارج؛ لذا كانت تلك السياسة التي انتقدها عمر رضي الله عنه في الاعتماد على الفارسي مع التوهم بعدم الاقتدار في غيره لا تزال موجودة اليوم للأسف، وتُمارس في الكثير من القطاعات؛ لذلك لا تجد من يفهم أو يحيط بتفاصيل العمل  فيها إلا شخص واحد أو اثنان، بينما البقية ليس لديهم الإدراك الكافي لكثير من مهام أعمالهم، والسبب في ذلك يرجع إلى عدة أمور، منها:

أولاً/ربما يكون الكسل وعدم تحمل المسؤولية وموت الضمير لدى الموظف.

ثانياً/قد يكون بسبب المدير المباشر، وذلك بإهماله إيضاح مهام الموظف عند التحاقه بالعمل، أو عدم تمكينه منها بشكل صحيح.

ثالثاً/غياب دور الشركة وعدم تطوير الموظفين في مجالاتهم المختلفة بما يتناسب والمهام المنوطة بهم.

رابعاً/تقصير زملاء المهنة أو خشيتهم من المنافسة، وعدم رغبتهم في نقل ما لديهم من خبرات حتى لا يصبح الموظف الجديد أفضل منهم.

خامساً/غياب دور القطاع في فرض والزام زميل العمل الذي يملك خبرة تعليم جميع من يعمل معه حتى لو كلف القطاع في ذلك زيادة ذوي الخبرة في الراتب.

 

في الختام:

يمكن للفرد قياس ذلك على صعيده الشخصي أو الإداري، فيجعل مقولة أمير المؤمنين نصب عينيه حين يتراخى أو يتخلى أحد ممن يكون الاعتماد عليهم في أي من شؤون الحياة. أحضر في ذهنك دائماً البدائل المميزة، فقطار الإنجاز والنجاح والتطوير لا يمتلكه شخص واحد، بل الله يعم بفضله الكثير من خلقه، وأي إنجاز فهو مقرون بتوفيق الله ثم العمل المستمر والمثابرة والصبر، فالعمل والاجتهاد ورسم الخطة المستقيمة ووضع الهدف هو من سوف يوصلك لو تخلى عنك من تظن أنه لن يتخلى عنك.

وتذكر دائما أن من يريد الوصول أو النجاح أو تحقيق ما يطمح إليه؛ فعليه أن يثق بما يقدم وأن لا يجعل كل اعتماده على الآخرين، كي لا تتكسر أجنحة آماله، فيعيش بين خيبات تأكله. وحين يتسلل إليك مثل هذا الشعور، تذكر مقولة عمر (الفارسي مات)! وافترض موت من وثقت به، ثم تفكر هل سيتوقف الإنجاز؟!

بالطبع لا، إذًا أكمل المسير في عملك، وواصل الاجتهاد، وسوف تحقق ما لم تحققه بواسطة من قد يتخلى عنك أو يخيب أمالك.

 

الممثل القانوني والكاتب 

فهد بن سهل آل جبر المصارير

14 مايو 2023 م 

للاطلاع على مقالات الكاتب ( اضغط هنا ) 

 

زر الذهاب إلى الأعلى