فنّ القول وجمال الروح

الكلمة ليست مجرد صوتٍ يخرج من الفم، بل هي مرآة الروح، وميزانُ العقل، وسفيرُ القلب إلى القلوب. ومن بين الفضائل التي تُجمِّل الإنسان وتُعلي من قدره، تبرز اللباقة في الكلام كفنٍّ راقٍ يجمع بين الحكمة والجمال، بين الصمت الناطق والقول الموزون.
يقول أفلاطون:
“الكلمة تُظهر جوهر الإنسان أكثر مما يُظهره وجهه.”
فما من شيءٍ يكشف عن داخل المرء مثل طريقته في الحديث، فهناك من يتكلم فيُحيي، ومن يتكلم فيُميت، وهناك من يجعل الكلمة جسرًا إلى القلوب، ومن يجعلها سيفًا يجرح ويؤذي.
اللباقة ليست تكلّفًا ولا تصنّعًا، بل هي ذكاء القلب حين يتحدث.
هي أن تعرف متى تقول، وكيف تقول، ولمن تقول.
أن تُدرك أن لكل مقامٍ مقالًا، وأن للكلمة أثرًا لا يزول.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب (ع):
“المرء مخبوءٌ تحت لسانه.”
فبقدر ما يحسن المرء حديثه، يُعرف عقله، وتُقاس حكمته.
ومن الناحية الفلسفية، ترتبط اللباقة بالفهم العميق للآخر، فهي ليست مجرد انتقاءٍ للألفاظ، بل إدراكٌ للمشاعر خلف الكلمات.
قال جبران خليل جبران:
“نصف ما أقوله لك لا معنى له، ولكنني أقوله ليصل النصف الآخر إليك.”
فاللباقة ليست ما يُقال فحسب، بل كيف يُقال، وكيف يُفهم. إنها حوار الأرواح قبل أن تكون تبادلًا للأصوات.
أما سقراط فقد كان يرى أن الكلام الجميل ليس في الزخرف اللفظي، بل في صدق النية ونقاء الفكرة، إذ قال:
“تكلم حتى أراك.”
فهو لا يرى الإنسان إلا حين يتحدث، لأن الكلام يكشف الجوهر، والعجز عن اللباقة يكشف ضيق الأفق وقسوة النفس.
وفي عالمٍ يزدحم بالأصوات، تصبح اللباقة فضيلة نادرة، وضرورة أخلاقية.
قال طه حسين:
“الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور.”
فما أجمل أن تكون كلماتنا أنوارًا تفتح القلوب، لا قبورًا تطفئ الأمل.
إن اللباقة في الكلام ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل هي قوة ناعمة، سلاحها الهدوء والعقل والرقي.
هي أن تقول ما تشاء دون أن تجرح، وأن تُعبّر عن رأيك دون أن تُقصي غيرك، وأن تنتصر للفكرة دون أن تهزم الإنسان.
قال غوته:
“اللباقة هي فنّ جعل الآخرين يشعرون بالراحة في حضورك.”
وهذا هو جوهرها الحقيقي — أن تمنح الآخرين احترامًا يليق بإنسانيتهم، وأن تزرع فيهم طمأنينة الحوار، لا خوف الجدل.
وفي الختام، يمكننا القول إن اللباقة ليست مجرّد مهارة اجتماعية، بل هي حكمة وجودية تعكس توازن الإنسان بين العقل والقلب.
فكما قال مصطفى صادق الرافعي:
“الكلمة التي تخرج من القلب تصل إلى القلب، والتي تخرج من اللسان لا تتجاوز الآذان.”
فلنحرص إذًا على أن تكون كلماتنا بلسَمًا لا جرحًا، وأن يكون حديثنا عطرًا لا دخانًا، فبقدر لباقة القول، يسمو الإنسان، وتزدهر الأرواح.
الكاتب / عبدالرحمن المعبهل
الأثنين 03 نوفمبر 2025 م