المقالات

بنك العلاقات

سناب صحيفة صراحة الالكترونية

العلاقات الإنسانية تشبه البنوك، لكنها بنوك من نوع خاص، بنوك لا تُودع فيها الأموال، بل المشاعر والاهتمام والاحترام. فعندما تتعرف على إنسان جديد، كأنك فتحت حسابًا له في بنك العلاقات. ومنذ تلك اللحظة، تصبح مسؤولًا عن الحفاظ على هذا الحساب عبر الإيداع المستمر، بما يضمن بقاء العلاقة متوازنة وصحية.

والإيداع هنا لا يعني بذل الجهد لمجرد العطاء، بل هو استثمار طويل الأمد. فكل كلمة طيبة، وكل لحظة اهتمام، وكل فعل يعكس الحب والاحترام، ما هو إلا إيداع في هذا الحساب. ومع مرور الوقت، يصبح هذا الرصيد العاطفي هو صمام الأمان الذي يحمي العلاقة من الانهيار في الأوقات الصعبة. لكن ماذا لو كان أحد الطرفين يكتفي بالسحب فقط؟

فمن الطبيعي في كل علاقة، أن هناك من يعطي وهناك من يأخذ. والعطاء بحد ذاته جميل، لكنه يصبح عبئًا عندما يتحول إلى طريقٍ باتجاه واحد. فالبعض يستهلك العلاقة حتى ينفد رصيدها بالكامل، دون أن يدرك أن الحساب العاطفي، مثل أي حساب آخر، يحتاج إلى تغذية مستمرة. وعندما تصل العلاقة إلى هذه النقطة، تبدأ الشكاوى الصامتة، وتتحول الابتسامات إلى خيبات، لأن الإيداع لم يعد كافيًا لتغطية السحوبات.

وهنا يأتي دور المبادرة. فأن تبادر بالإيداع لا يعني أن تقدم الكثير لتنال القليل، بل أن تفكر في العلاقة كأرض خصبة تحتاج إلى العناية قبل أن تثمر. فهي نظام حياة كما لو أنك تحفر بئر قبل أن تشعر بالعطش، ولذلك، عليك أن تملأ بنك العلاقة قبل أن تحتاج إلى دعمه.

والمفارقة هنا أن الكثيرين يركزون على ما ينقصهم دون أن يسألوا أنفسهم عما قدموه. فالعلاقات ليست اختبارًا للآخرين بقدر ما هي انعكاسٌ لما نمنحه. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل أن بعض العلاقات تصبح عبئًا، لأن أحد الأطراف لا يرى إلا نفسه فيسحب ويطلب ويستهلك، دون أن يفكر في الإيداع. وهؤلاء الأشخاص هم اختبارٌ لصبرنا وحدودنا.

وفي مقابل ذلك، هناك علاقات تميزها التوازن، وهذه العلاقات تُشعرنا بالأمان، لأنها مبنية على الإيداعات المتبادلة وعندما يُخطئ أحد الطرفين، يجد الآخر عذرًا له، لأن الرصيد يغطي الخطأ. وعندما تأتي لحظات الانكسار، تصبح هذه العلاقات ملاذًا، لأننا نعلم أن هناك من سيقف بجانبنا.

فالحياة لا تمنحنا وقتًا طويلًا للتردد أو التأجيل. لذا علينا أن نكون مبادرين، لا لأننا ننتظر المقابل، بل لأننا ندرك أن العلاقات الناجحة تحتاج إلى تغذية مستمرة. فمن السهل أن ننتقد الآخرين، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في أن نكون نحن البادئين بالإحسان، دون أن نفقد وعيًا بالتوازن.

فالعلاقات ليست أرقامًا ولا معادلات، لكنها كالبنوك، تحتاج إلى إدارة حكيمة. إذا استنزفت نفسك في علاقة لا تمنحك شيئًا، فستشعر يومًا بالإرهاق. وإذا أهملت الإيداع، لن تجد ما يغطي حاجتك حين تحتاج. لذلك، كن حكيمًا. واحفر بئر العلاقة قبل العطش، وازرع بذور الاهتمام قبل أن تبحث عن الثمار. وعندما تفعل ذلك، ستجد أن كل رصيد عاطفي أودعته، سيعود إليك في اللحظة التي تحتاجه فيها.

 

الكاتب / طارق محمود نواب

السبت 18 يناير 2025 م 

للأطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )

زر الذهاب إلى الأعلى