#مبادرتك_تعفيك: لحماية الإنسان والأسرة والمجتمع

في خطوة إنسانية رائدة، ومع بداية العام الهجري 1447هـ، أعلنت النيابة العامة في المملكة العربية السعودية عن مبادرة إصلاحية نوعية، تُتيح للمتعاطين التقدّم طوعًا للعلاج من المخدرات دون التعرض لأي مساءلة قانونية، شريطة تسليم ما بحوزتهم من مواد مخدرة، وأن يكون التقدّم من المتعاطي نفسه أو أحد أفراد أسرته.
هذه المبادرة تعكس تحوّلاً جوهريًا في النظرة الرسمية لقضية الإدمان؛ إذ لم تعد تُعالج فقط من منظور أمني، بل أصبحت قضية إنسانية ومجتمعية تتطلب العناية والاحتواء، بما يواكب التوجهات العالمية، ويجسّد مبادئ رؤية السعودية 2030 نحو مجتمع أكثر صحة وأمانًا وتماسكًا.
- رؤية إنسانية تحتضن لا تُقصي
تنطلق المبادرة من إدراك عميق بأن المدمن ليس مجرمًا بقدر ما هو ضحية لظروف نفسية واجتماعية، دفعت به إلى هاوية الإدمان. ومن هنا، تُقدّم له الدولة فرصة جديدة للشفاء والانخراط في المجتمع، بعيدًا عن وصمة الجريمة، ضمن إطار من الرحمة والرعاية.
- إعادة بناء الروابط الأسرية
أتاحت المبادرة لأفراد أسرة المتعاطي أن يتقدّموا نيابة عنه بطلب العلاج، ما يُعيد للأسرة دورها الطبيعي كحاضن ومشارك في الحل، لا كضحية للأزمة. هذه الخطوة تُمكّن الأسر من لعب دور فعّال في إنقاذ أبنائها وتعزيز التماسك الأسري.
- دعم الصحة النفسية والاجتماعية
تُعد هذه المبادرة انعكاسًا واعيًا للتطور في فهم قضايا الإدمان من منظور صحي ونفسي واجتماعي متكامل، لا يُعالج المتعاطي كجريمة بل كأزمة إنسانية تتطلب الرعاية والتأهيل. لقد بات من المؤكد أن كثيرًا من حالات الإدمان ترتبط ارتباطًا مباشرًا بـمعاناة نفسية عميقة، أو اضطرابات عقلية غير مشخصة، أو ببيئات اجتماعية مفككة ومليئة بالتوتر والعنف أو الإهمال.
ومن هذا المنطلق، تعمل الدولة من خلال هذه المبادرة على كسر العزلة النفسية التي يعيشها المدمن، وتوفير العلاج له داخل بيئة آمنة وشاملة تراعي كرامته وتدعمه في رحلته نحو الشفاء. حيث يُنظر إلى المدمن، ليس كمصدر خطر، بل كإنسان تستحق حالته التفهّم والاحتواء والعلاج، بهدف إنقاذه لا إدانته.
ويُقدم الدعم عبر برامج شاملة تشمل:
العلاج الدوائي تحت إشراف طبي.
العلاج السلوكي المعرفي لإعادة بناء نمط التفكير والسلوك.
الدعم النفسي الفردي والجماعي.
الاستشارات الأسرية لإصلاح العلاقة بين المتعافي وأسرته.
برامج التأهيل الاجتماعي والمهني لدمجه في المجتمع وتمكينه اقتصاديًا.
أما على الصعيد الاجتماعي، فتسعى المبادرة إلى إعادة دمج المتعافي في نسيج المجتمع، من خلال منحه فرصًا متساوية في التعليم والتوظيف، ومساعدته على استعادة احترامه لذاته ومكانته الاجتماعية. وهذا لا يسهم فقط في شفائه، بل يُسهم كذلك في تحصين المجتمع من آثار الإدمان الممتدة إلى الأسرة، والعمل، والشارع، وحتى الاقتصاد الوطني.
كما تلعب هذه المبادرة دورًا كبيرًا في كسر الوصمة الاجتماعية التي تُلاحق المتعاطين، وتحول دون طلبهم للعلاج، حيث تُعيد صياغة نظرة المجتمع إلى المدمن كـ”مريض قابل للتعافي” وليس “مجرمًا دائمًا”.
إن دعم الصحة النفسية والاجتماعية عبر هذه المبادرة لا يخدم المتعاطي وحده، بل هو استثمار وطني في حماية النسيج المجتمعي من التآكل، ورفع جودة الحياة، وتحقيق مجتمع متماسك ومتراحم وآمن، كما نصت عليه رؤية المملكة 2030.
- كسر حاجز الخوف والوصمة
لطالما كانت الوصمة الاجتماعية والخوف من العقوبة أكبر عائق أمام التعافي. لكن بفضل هذه المبادرة، بات في مقدور المتعاطين التقدّم بأمان وثقة، دون خشية من الملاحقة، ما يساهم في تحرير المريض من العزلة النفسية التي طالما لازمته.
- رعاية تمتد حتى لمن زلّ
تُثبت الدولة – من خلال هذه الخطوة – أن رعايتها لا تقتصر على الناجحين، بل تشمل حتى من أخطأ وزلّ، ما دامت هناك رغبة حقيقية في التغيير. وهذه فلسفة قائمة على قيم الرحمة والتكافل، المستمدة من تعاليم الإسلام ومن توجّه القيادة الرشيدة.
وعن جهود المملكة بالأرقام
100+ مليون قرص أمفيتامين تم ضبطه خلال عام 1445هـ.
45 طنًا من الحشيش أُحبط تهريبها خلال العام ذاته.
1955: الرقم المجاني للدعم العلاجي من وزارة الصحة.
60% نسبة المتعافين العائدين للمجتمع بعد العلاج.
إشادة من هيئة الأمم المتحدة بمقاربة المملكة التي تجمع بين الحزم الأمني والاحتواء العلاجي.
ختامًا: نموذج عالمي في العدالة والرحمة
إن مبادرة النيابة العامة لا تمثّل فقط سياسة علاجية، بل تعكس فكرًا وطنيًا راقيًا يرى في الإنسان محور التنمية، حتى في لحظات ضعفه. ومن خلال هذه الخطوة، تؤكد المملكة أنها تسير بخطى واثقة نحو بناء مجتمع سليم ومعافى، يعكس القيم الإسلامية والإنسانية، ويجعل من المملكة نموذجًا يُحتذى عالميًا في التوازن بين الأمن والرحمة، بين القانون والإنصاف، وبين الوقاية والإصلاح.
بقلم / د. عبدالله بن قاسم بن دغيّم
متخصص في علم الاجتماع التنمية والتغير
السبت 28 يونيو 2025 م
للاطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )