المقالات

ثورة البلوك تشين

عندما تقبل على إجراء أي صفقة مالية مثل شراء منزل أو سيارة أو قطعة أرض، فإن أول خطوة تقوم بها هي الاتفاق مع البائع على سعر للشراء ومن بعدها تقوم بالإجراءات المالية المتطلبة لإتمام عملية الشراء ونقل الملكية إليك.

ومن أجل ضمان موثوقية عمليات الشراء ونقل الملكية دون ضياع حقوق المشتري والبائع، اعتمد الناس منذ سالف الأزمان على ما يمكن تسميتهم بالوسطاء الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تدقيق وتوثيق الصفقة، وقد لعبت البنوك دور الوساطة هذه لفترة طويلة من الزمن، وذلك من خلال توثيق المعاملات وتتبع وثائق الملكية للتأكد من شرعية عمليات البيع بين المتعاملين في الآونة الأخيرة، وقد نلحظ  بأن شركات اوبر وغيرها بدأت في أن تلعب دور منصات الوساطة هذه حيث أنها تقوم بالتأكد من موثوقية السائقين، وعلى الرغم من تغير نوع الوسطاء عبر الزمن، وسواء كانوا بنوك أو شركات مثل أوبر وإير بي الخ فإن التاريخ قد يظهر لنا أن هؤلاء الوسطاء نفسهم ليسوا دائما محل ثقة المتعاملين حيث يمكن للبنوك أن تفلس وتخسر أموالك، ويمكن لشركة مثل أوبر بيع بياناتك لشركة أخرى دون موافقتك وحتى أنظمة المؤسسات  التقليدية قد تكون هي ذاتها معرضة للفشل.

وفي خضم كل هذا، يجدر بنا أن نسأل كيف يمكننا تسخير شبكة الإنترنت للتغلب على هذه المخاطر في المعاملات المالية، وكيف يمكننا تعزيز ثقة الناس في الشبكة العنكبوتية لدرجة تشجيعهم على استخدامها لإجراء المعاملات المالية الضخمة، رغم الاعتقاد السائد بأنها تفتقر بدرجة كبيرة لوسائل الأمان المناسبة للمعاملات المالية الضخمة.

حيث يكمن الجواب في أن التكنولوجيا الجديدة بدأت بالانتشار مؤخرا، ومن المتوقع لها أن تغير مفهوم الناس حيال الإنترنت إلى الأبد حيث يطلق على هذه التكنولوجيا اسم بلوك تشين ويمكن تعرفها باختصار بأنها شبكة عالمية من البيانات تربط بين المشترين والبائعين بشكل مباشر وتسمح لجميع المتعاملين فيها بتجاوز السلطات المركزية التقليدية مثل البنوك.

وتتمحور فكرة البلوك تشين حول تأسيس قاعدة بيانات لامركزية غير قابلة للتلاعب أو الاختراق ولا تخضع لملكية أو إدارة جهة واحدة معينة  حيث ان كل مستخدم للبلوك بين يديه إمكانية الوصول إلى قاعدة البيانات هذه التي تحمل خلالها جميع المعاملات بطريقة عملية وشفافة.

وإن البلوك تشين هو نظام قواعد بيانات لامركزية ذو قدرات حسابية عالية ونظام أمني قوي وعند إجراء معاملة ما فإن البلوك تشين يقوم بمنح هذه المعاملة طابعا زمنيا ويضيفها إلى قاعدة البيانات الكبرى والتحقق من شرعيتها وصحتها. كما يقوم النظام للبلوك تشين بالتأكد من مطابقة معلومات هذه المعاملة مع النسخ الموثوقة عبر مستخدمي الشبكة عندما تتوافق هذه المعاملة مع بيانات غالبية الأطراف المعنية في الشبكة حيث  يتم اعتبارها معاملة موثوقة وتضيف الشبكة طابعا يثبت شرعية هذه المعاملة.

ومن خلال تطبيق هذا المستوى من الشفافية وأساليب التحقق، لا توجد هناك فرصة للقراصنة الإلكترونيين أو اللصوص لإجراء تغييرات غير ملحوظة على البيانات الموزعة على عدد من مستخدمي البلوك تشين،  فنظام البلوك تشين وكما يشير اسمه هو سلسلة من الكتل لكل سجل من البيانات والذي قد يحتوي على معاملات متعددة تسمى كتلة ضمن قاعدة البيانات المتنامية هذه وكل كتلة جديدة من البيانات مرتبطة بكافة الكتل السابقة.

حيث إن ترابط كتل البيانات هو ما يجعل نظام البلوك تشن نظاما معلوماتيا أمنا للغاية لأنه يتم إنشاء كتل البيانات الجديدة بواسطة عمليات حسابية معقدة عبر حواسيب ذات قدرات عالية تسمى عمال المناجم ماينرز، وهى كتل البيانات الجديدة التي لا تحتوي فقط على المعاملات الجديدة ولكنها تحتوي أيضا رابطا إلى الكتلة السابقة والتي تحتوي بدورها على رابط آخر إلى ما يسبقها وهكذا.

لذا عندما تتم إضافة كتلة جديدة، فإن عامل المنجم الجديد سيقوم ببث بياناته إلى شبكة عمال المناجم الآخرين في قاعدة البيانات مما يؤدي إلى خوارزمية توافقية ستضمن أن كل كتل البيانات في حالة توافق تام.

وهذه هي الطريقة التي يستطيع بها عمال المناجم أن يستبدلوا الوسطاء التقليديين. كما يحتوي نظام البلوك تشين على ما يسمى بالخوارزميات وهي البرامج التي تحمي نظام البلوك تشين من أعمال تخريب البيانات والسرقة.

حيث أن خوارزميات إثبات العمل هي الخوارزميات الأكثر شيوعا بالنسبة إلى البلوك تشين لأنها تجعل من المستحيل بالنسبة إلى شخص ما إضافة كتل معلومات تحتوي على معلومة معدلة عن طريق مطابقة روابط بين كتل البيانات الجديدة وكتل البيانات التي تسبقها، خوارزمية إثبات العمل وتضمن كذلك أنه عندما يتم إضافة كتلة جديدة فإنه لا يمكن لأحدهم استعادة السلسلة أو إزالة معاملة قديمة أو إنشاء كتلة جديدة لاستبدالها مكان كتلة قديمة ضمن السلسلة.

قد يعتقد الكثير منا إنه في يومنا هذا يمكننا تحويل أو تداول الأموال دوليا بنفس السرعة التي نتبادل بها رسائل الهاتف أو البريد الإلكتروني لو أرسلنا شحنة من الحديد عبر البريد من الولايات المتحدة إلى الصين وأرسلنا في نفس الوقت 10 دولارات عبر حوالة بنكية ما الذي سيصل أولا؟ صدق أو لا تصدق فإن شحنة الحديد ستصل أولا هذا جزء من مشكلة النظام المالي العالمي الحالي.

فنظام البنوك العالمي الحالي معقد وبطيء للغاية، وبما أننا نقوم بالكثير من الأعمال المصرفية عبر الإنترنت، فإننا نعتقد بأن المال ينتقل بالسرعة التي ينتقل فيها البريد الإلكتروني، ولكن على عكس هذا الاعتقاد فإن النظام المالي ورغم تطوره فهو غرق في الكثير من التعقيدات التي تعتمد على عدد كبير من الوسطاء الذين يتدخلون في المعاملات المالية الدولية وهؤلاء الوسطاء قد يكونون شركات بطاقات الائتمان أو البنوك الاستثمارية أو وسطاء أسواق الأسهم أو شركات تحويل الأموال مثل ويسترن يونيون وغيرها من المؤسسات المالية العالمية، وهؤلاء الوسطاء يجعلون المعاملات المالية أكثر تكلفة في محاولة لتعزيز حساباتهم المصرفية الخاصة، وكل هذا على حساب سرعة وسهولة تداول للأموال دوليا.

وفي المقابل نجد أن نظام البلوك تشين مع عملته الشهيرة البيتكوين التي تتخطى الكثير من العقبات التي ذكرناها سابقا، يأخذ البيتكوين حوالي 10 دقائق ليتم نقلها من حساب إلى آخر، وهو الوقت الذي يستغرقه إضافة كتلة جديدة إلى سلسلة البلوك تشين. فليس هناك حاجة للمرور عبر خمس وسطاء دوليين مختلفين كما يحدث عندما تستخدم بطاقتك الائتمانية التابعة لحسابك لدفع ثمن قهوتك.

وفي أثناء إجازتك في مدينة نيويورك الأمريكية يمكن كذلك لتعاملات البطاقات الائتمانية أن تكون مكلفة بعض الشيء مع جميع رسوم خدمة عمليات الشراء الدولية مما يجعلها عديمة الجدوى وبالنسبة للشريحة الأفقر من سكان العالم، ونظرا للنظام المصرفي المكلف فإن المدفوعات التي تقع قيمتها تحت العشرين سنتا لا تعد مربحة بالنسبة إلى البنوك على الرغم من أن 2.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم.

لذلك لا نعجب إذا وجدنا أن 2.5 مليار شخص من سكان العالم لا يمتلكون حسابات مصرفية في الناحية الأخرى يمكن للبلوك تشين أن يكون بديلا مناسبا لشريحة أكبر من سكان العالم كونه يتعامل مع المدفوعات الصغيرة بكل سهولة ويوفر العديد من الخدمات البنكية دون أي تكلفة.

وكل ما يتطلب الأمر هو اتصال بشبكة الإنترنت لاستخدام نظام البلوك تشن والانضمام إلى هذا الاقتصاد العالمي المعاصر.

 

 

الكاتب / طارق محمود نواب

08  أكتوبر 2023 م

للأطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى