“ممالك العرب القديمة.. حين نطقت الصحراء بالمجد”

(قيدار، لحيان، والأنباط.. سلالة المجد من الخيمة إلى الصخر)
*مملكة قيدار.. حين نطقت الصحراء بالعروبة
في رمال الصحراء الممتدة شمال جزيرة العرب، حيث الخيام تُنصب على وقع الرياح، والنجوم ترشد السائرين، نشأت مملكة نُقش اسمها في ذاكرة التاريخ، لا بالحجارة فقط، بل بالفروسية والمجد. إنها مملكة قيدار، ابنة الصحراء، وحفيدة إسماعيل، وسيدة من سادات العرب الأُوَل.
كانت قيدار أكثر من قبيلة، كانت أمة تجوب الأرض، وتحكم باسم الخيمة والجمل والسيف، وتحيك في ليل الصحراء أنسجة الخيام كما تحيك المجد. في ظلها، وُلدت زعامات عربية لم تكن ذكورية دائمًا؛ إذ سطّرت الملكة شمسي وزابيبى تاريخًا ناصعًا في صفحات القيادة، فحكمت نساءُ قيدار، وواجهن ملوك آشور بقوة لا تلين.
ولم تكن قيدار مجرد مملكة مقاتلة، بل كانت جسرًا بين حضارات، تتقن التجارة مثلما تتقن القتال. تجوب قوافلها الصحراء، من دومة الجندل إلى أطراف الشام، تحمل البخور، والجمال، والجلود، وتعود محملة بالحكايات، والذهب، والهيبة.
ذكرها الآشوريون في نقوشهم، واحتفظ بها الكتاب المقدس في سفر إشعياء، حتى صار اسمها رمزًا لعروبة تنبض في قلب التاريخ. كانت قيدار عنوانًا لقومٍ عرفوا أن السكنى في الخيام لا تمنع العظمة، وأن من تنقّل بين الكثبان قد يكتب اسمه في صخور الحضارات.
إنها مملكة قيدار.. حيث كانت الخيمة عرشًا، والجمل سفينة، والصحراء وطنًا، والفخار العربي أول ما نطق به التاريخ.
*مملكة لحيان.. الحرف الذي نحت الصخر
في قلب العُلا، بين الجبال الصامتة والصخور التي تحفظ السرّ، قامت مملكة لم تكتفِ بأن تسكن الأرض، بل أرادت أن تترك أثرها عليها. إنها مملكة لحيان، واحدة من أعرق الممالك العربية الشمالية التي حملت راية العرب قبل الإسلام، ونقشت اسمها بلغتها، وازدهرت حتى نافست أعظم الحضارات.
كانت دَدَان هي المهد الأول، ومنها انطلقت لحيان لتبني مجدها، وتصبح قوة تجارية وسياسية بين القرن السادس والثاني قبل الميلاد. جعلت من موقعها الاستراتيجي نقطة وصلٍ للتجارة بين جنوب الجزيرة وبلاد الشام، فصارت قوافل البخور تمرّ عبرها، وتُغدق عليها الخيرات من كل صوب.
لكن لحيان لم تكتفِ بالثروة، بل كانت أمة تعرف الحرف، فنقشت كتابتها الخاصة على الصخور، وابتدعت نظاماً كتابيًا صار جزءًا من هوية العرب. حروفها اللحيانية ما زالت إلى اليوم تروي قصص الملوك، والقرابين، والعهود، والحدود.
عُرف ملوكها بلقب “ملك لحيان”، وتركوا آثارًا تنبض بالفخامة، كالمعابد والمقابر المنحوتة، خصوصًا في منطقة الخريبة التي كانت قلب المملكة النابض، وما زالت شاهدة على عبقرية عربية قبلية صنعت حضارة دون أن تستعير أدوات الآخرين.
في مملكة لحيان، كانت العروبة ناضجة مبكراً، حيث تلاقى الدين بالتجارة، والفكر بالسلطة، والكتابة بالمعتقد. وإذا كانت الصحراء عند البعض رمزًا للعزلة، فقد كانت عند لحيان رحمًا للنهضة، وموطناً لعقلٍ عربيٍ أراد أن يكتب على الحجر كي لا يُنسى
*مملكة الأنباط.. سادة الصخر وروّاد التجارة
في الزاوية الشمالية الغربية من الجزيرة العربية، حيث الصحراء تعانق الجبال، وحيث تنحني الصخور لأزاميل الفن العربي، نشأت مملكة كتبت التاريخ بيدٍ من ذهب وأخرى من حجر. إنها مملكة الأنباط، المملكة التي حولت الصخور إلى قصور، والتجارة إلى حضارة.
بدأ الأنباط كقبائل عربية بدوية، تجوب الصحراء وتروي قصصها على الرمال، لكنهم لم يرضوا بالبقاء على هامش العالم، فشقّوا لأنفسهم طريقاً إلى المجد. بحلول القرن الرابع قبل الميلاد، صعد نجمهم، وأسّسوا مملكة قوية امتدت من شمال الحجاز حتى جنوب الشام، وجعلوا من البتراء عاصمتهم، المدينة التي صارت جوهرة المعمار في قلب الصحراء.
لم تكن البتراء مجرد مدينة، بل كانت أعجوبة، محفورة في قلب الجبل، مزخرفة بروح عربية، ممزوجة بذوق حضاري فريد استلهم من الفرس، والرومان، والمصريين، دون أن يفقد هويته. كانت معابدها، قبورها، وساحاتها الكبرى، تتحدث بلغة القوة والذوق والدهاء.
أما تجارتهم، فقد سيطروا بها على طريق البخور والتوابل، فغدت البتراء ملتقى القوافل من اليمن حتى غزة، ومن العراق حتى مصر. أتقن الأنباط فن التفاوض، وفهموا دهاليز السياسة، فعاشوا طويلاً في توازن بين القوى الكبرى دون أن يخضعوا لأحد.
واشتهروا كذلك بإبداعهم في نظام الري، إذ طوّروا قنوات وخزانات مائية مذهلة، مكنتهم من الاستقرار في بيئة قاحلة، ومن جعل المدينة الصخرية تنبض بالحياة.
سقطت مملكة الأنباط على يد الرومان عام 106م، لكنها لم تمت، فكل من زار البتراء اليوم، ووقف أمام “الخزنة” أو “الدير”، يعلم أن هذه المملكة العربية لا تزال تنبض في كل زاوية منها
الكاتب / عبدالرحمن المعبهل
السبت 02 أغسطس 2025 م