سموم الفوضى

قواعد… حياتنا مليئة بالقواعد أليس كذلك؟ أليس كثرة هذه القواعد يجعل حياتنا معقدة بما يكفي، ومقيدة بما يكفي؟ وحتى وإن كان لا يوجد هذه القواعد التي لا تعطي اهتمام لكون كل منا له مواقفه الفريدة والفردية، أو إن كانت عقولنا بطبيعتها مرنة، وجميعها تتطور وتنمو بطرق متباينة وبحسب التجارب الحياتية التي نمر بها، فلماذا نتوقع أن وجود بعض القواعد مفيدة للبشر جميعهم بنفس القدر؟ فالناس عادة لا يميلون لوجود القواعد في حياتهم ولا يحبون اي شيء يقيدهم بأفعال محددة حتى في أهم الأشياء في حياتهم.
لكن بدون هذه القواعد تصبح الحياة فوضوية وغير منظمة، فالقواعد توفر الهيكل الأساسي لكثير من الأشياء وبدونها تصبح حياتنا رخوة ليس لها هيكل أو داعم تسير وفقاً له.
ومن هنا، يظل من الضروري أن تبقى القواعد حاضرة بلا شك، لكن ما نتمناه دائما ألا تكون زائدة بشكل مفرط. فنحن نرفض رفضاً باتاً أن نقبل القواعد، حتى عندما ندرك جدواها وفائدتها لنا. فإذا كنا أرواحا جريئة وحرة، وإذا كانت لدينا شخصيات مستقلة، تظهر القواعد أمامنا كقيود تقيّد حريتنا وتهين مفهومنا عن القوة، وكرامتنا في عيش حياتنا بحرية. لذا، لماذا يجب علينا أن نكون محكومين بمبادئ أي كيان آخر غير أنفسنا؟ ولماذا يتم محاسبتنا وفقاً لذلك؟
وذلك يحدث لأننا إذا تركنا خواطرنا وتقديراتنا الخاصة تجول دون توجيه أو اهتمام أو رعاية كاملة بكل تفاصيلها والتحكم فيها، فسرعان ما نصل سريعاً إلى تبجيل وتقديس جوانب منخفضة ومتدنية من ذاتنا؛ وفي هذه الحالة نتحول إلى كائنات مصطنعة مهمتها أن تبرز الغرائز والشهوات بشكل همجي وغير منظم تماماً.
ولذلك، على الرغم من رفض بعض الأشخاص للقيود والتقييدات، إلا أن العالم بأسره يعتمد على نظام من القواعد للحفاظ على نظامه واستقراره، ودونها سينهار كل شيء في بحر من الفوضى.
فالقواعد، هي تلك الخطوط العريضة التي تنسجها الثقافة والتقاليد والتجارب، والتي نسير وفقاً لها وتشكل مرجعاً أساسياً في حياتنا. فتلك القواعد تأتي بتنوعها وتعدد أشكالها لتحدد مساراتنا وتوجهاتنا، فتمنحنا هياكل معرفية لنبني عليها تصرفاتنا وقراراتنا. لكن في تلك الأثناء، تتراءى أمامنا قيود تعترض حريتنا وتصطاد تلك الروح الجريئة التي تتمنى الطيران بعيداً عن حدود الواقع إلى أن تصبح غير قادرة على مواصلة ما تصبو إليه.
وفي حقيقة الأمر، قد يبدو الامتناع عن قبول القواعد بمثابة تمرد على واضع تلك القواعد، إلا أنه ينبغي لنا أن نتساءل، هل تمثل القواعد بالفعل قيوداً للحرية؟ أم هي بالعكس، بنية توجيهية تضفي النظام والتنظيم على حياتنا؟
فمن وجهة نظري أن القواعد ليست دائماً معيقة للحرية بل قد تكون منبراً للتعبير عنها، وعلى سبيل ذلك، قواعد الأخلاق والاحترام تساعد دائماً في بناء مجتمع مترابط ومتعاون، وتمنح كل فرد فيه الفرصة للتطور والنمو بشكل صحيح.
فالاحتياج الشديد للمبادئ الإرشادية عامةً وللقواعد خاصةً المنتشر في أوساط الشباب الأصغر سنا، بات أعظم في يومنا هذا لأسباب وجيهة ألا وهي أن جيل الألفية الذي يقال له في كثير من الأحيان إنه تلقى أفضل تعليم متاح في أي مكان، عانى من أحد أشكال الإهمال الفكري والأخلاقي الخطير.
ولذلك، تكون الأهمية الأكبر الآن أن نجعلهم يتقبلون القواعد بحكمة، وينظرون إليها على أنها شريكة في رحلتهم، لا سداً يعرقلهم، بل توجيهاً يثقون به في تحقيق أهدافهم وتحقيق أحلامهم. فالقواعد هي ترياق الفوضى الوحيد.
الكاتب / طارق محمود نواب
الجمعة 30 مايو 2024 م
للأطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )