“الخط يبقى زمانًا بعد كاتبه، وكاتب الخط تحت الأرض مدفون”

في هذه العبارة العميقة “الخط يبقى زمانًا بعد كاتبه، وكاتب الخط تحت الأرض مدفون”، نجد تجسيدًا صادقًا لمعنى الخلود الحقيقي، ذاك الذي لا يتجلى في الجسد، بل فيما يتركه الإنسان من أثر وكلمة وفكر. إنها حكمة عربية خالدة، تعبّر عن قيمة الكتابة وأثرها الذي يمتد عبر الزمان، بينما يذهب كاتبها إلى مثواه الأخير.
أفلاطون، الفيلسوف اليوناني الشهير وتلميذ سقراط، يعتبر من أعمدة الفكر الفلسفي الغربي. في كتبه مثل “الجمهورية” و”فيدون”، خطّ أفكاره عن العدالة والروح والمجتمع المثالي، تلك التي لا تزال تُدرّس حتى اليوم. مات أفلاطون منذ قرون، لكن فلسفته باقية، تخاطب العقل البشري جيلاً بعد جيل. كلماته لم تمُت، بل بقيت تُنقش في العقول وتؤسس لمفاهيم السياسة والأخلاق.
الكتابة: ذاكرة الإنسانية
منذ فجر التاريخ، كانت الكتابة وسيلة الإنسان الأولى لتوثيق تجاربه، ونقل معرفته، وتخليد حضاراته. الألواح السومرية، والنقوش الفرعونية، والمخطوطات الإسلامية، كلها شواهد باقية تشهد على عظمة من خطها، حتى وإن لم نعرف أسماء بعضهم. فالخط هو الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر، والوسيلة التي تبقي الإنسان حاضرًا حتى بعد وفاته.
الخلود ليس في الجسد، بل في الأثر
الإنسان بطبعه فانٍ، لكن أثره لا يموت. فكم من شاعر، وعالم، ومفكر، غيّبهم التراب، ولكن كلماتهم لا تزال تُقرأ، وأفكارهم تُدرّس، وتُستلهم. من المتنبي إلى ابن سينا، ومن جابر بن حيان إلى نجيب محفوظ، كلهم رحلوا بأجسادهم، لكن “خطهم” ما زال يتحدث عنهم، يحمل أصواتهم، ويُحاور الأجيال القادمة.
مسؤولية الكاتب وأمانة الكلمة
إذا كان الخط باقٍ، فإن مسؤولية الكاتب تزداد عظمًا. فالكلمة لا تُمحى بسهولة، وما يُكتب قد يُخلد. لهذا فإن على كل من يمسك القلم أن يتذكّر أن ما يخطه اليوم قد يُقرأ غدًا، ويؤثر في عقل أو قلب أو قرار. فكما أن الخط قد يكون سببًا في رفعة، قد يكون أيضًا سببًا في فتنة أو ضياع إن أُسيء استخدامه.
الختام: دع قلمك يتحدث عنك بعد رحيلك
في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتعدد فيه وسائل التعبير، تبقى الكتابة صرحًا ثابتًا من صروح التأثير الإنساني. فليكتب كل واحد منا ما يرضى أن يُذكر به بعد رحيله. فرب حرف أبقى صاحبه حيًا في ذاكرة البشرية، ورب كلمة أنارت دربًا لمن جاء بعده.
نعم، كاتب الخط تحت الأرض مدفون، ولكن خطه قد يكون نجمًا يضيء سماء الزمان.
الكاتب / عبدالرحمن المعبهل
الاحد 06 يوليو 2025 م