المقالات

فلسفة الرز بالبصل

سناب صحيفة صراحة الالكترونية

في الإدارة، كما في الحياة، ليس كل شيء يُقاس بالجهد المبذول، بل بالوضوح الذي يُدار به هذا الجهد. فكم من مشاريعٍ بدأت بحماس، لكنها ضاعت في زحام التفاصيل، وكم من طاقاتٍ بُعثرت لا لقصورٍ في الكفاءة، بل لأن المسارات اختلطت حتى صارت مثل “الرز في البصل”؛ لا بداية واضحة، ولا نهاية محددة، فقط خليط يُربك النظر ويُنهك اليد التي تحاول فرزه،

وهذا المثل الشعبي البسيط، الذي خرج من مطبخ الناس وتجاربهم اليومية، يلخّص جوهر الفوضى حين تُترك بلا إدارة… حين تضيع الحدود بين الأدوار، ويصبح الكل في موضع الكل، فلا يعرف الموظف حدوده، ولا يفهم المدير دوره، وتُهدر الأيام في اجتماعات مطولة لا تُثمر، بينما الهدف الأصلي يبتعد أكثر فأكثر.

والفوضى هنا ليست مجرد سوء تنظيم، بل هي حالة تستنزف الروح قبل الجهد. لأن الإنسان حين لا يعرف ما المطلوب منه، يدخل في دوامة من الحيرة، فيضاعف مجهوده ليعوض غياب التوجيه، فينتهي مُرهقًا بلا نتيجة تُذكر. وكما أن الأكل لا يُستساغ إذا اختلطت مقاديره بلا نظام، فإن العمل لا يُثمر حين يفتقد ترتيب المكونات الأساسية وهي وضوح المهام، ودقة التوزيع، ومساءلة عادلة تُعيد لكل طرف وزنه الحقيقي.

والأخطر أنه بذلك لا يُعطل الإنجاز فحسب، بل يقتل الدافع الداخلي. لأن من يعمل في بيئة بلا وضوح يفقد بوصلة الإنجاز، فيتحول العمل من مساحة للإبداع إلى عبءٍ يومي، ومن فرصة للتطور إلى معركة بقاء. فلا عجب أن كثيرًا من المواهب تضيع، ليس لنقصٍ في قدراتها، بل لأنها وُضعت في سياق يستهلكها عشوائيًا حتى آخر قطرة.

لذلك، فالإدارة الحقيقية لا تقاس بعدد القرارات الصارمة ولا بطول التقارير، بل بقدرتها على الفصل بين الأدوار، ووضع كل شيء في مكانه المناسب. فالإدارة الناجحة تعرف أن النظام ليس ترفًا، بل هو شرط أساسي للحياة داخل أي مؤسسة. وفكرة أن يُمنح كل موظف مهمته بوضوح، أو أن يعرف متى يبدأ ومتى يتوقف، يجعل العمل يسير كجدول ماءٍ واضح المسار لا كبركة راكدة تختلط فيها المياه حتى تفقد صفاءها.

وبكل حال فجملة “الرز في البصل” ليس مجرد وصف ساخر لحالة فوضى، بل هو جرس إنذار. فإذا كان المطبخ لا يخرج بطبقٍ صالح حين تختلط مكوناته بلا عقل، فكيف لمنظومة كاملة أن تنجح إذا لم تعرف كيف تفرز أدوارها وتُنظم خطواتها؟ فالإدارة ليست جمع الناس تحت سقفٍ واحد، بل أن تمنح كل فرد دوره ليضيء مكانه، فيتحول المجموع من خليط مربك إلى لوحة متكاملة.

 

الكاتب / طارق محمود نواب

الجمعة 05 سبتمبر   2025م 

للاطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )

 

زر الذهاب إلى الأعلى