كيف غادرت لغة الضاد …مسرح الغناء؟

من سيّدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم التي جعلت الفصحى تعلو كقنديلٍ معلّقٍ في سماء الطرب، إلى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي صاغ القصيدة لحنًا يمشي على الماء، ومن عازف العود الكبير فريد الأطرش الذي جعل الآه قصيدة، إلى قيثارة الشرق طلال مداح، وفنان العرب محمد عبده، وأخطبوط العود عبادي الجوهر الذين حملوا الفصحى على أوتارٍ تعرف الشجن.
ومن صوت الإحساس نجاة الصغيرة التي همست بالكلمة حتى صارت الكلمة رقيقةً مثل ظلّ غيمة، وصوت كروان الشرق فايزة أحمد التي أغنت القصيدة بصوتٍ يعرف طريقه إلى القلب دون استئذان، إلى وديع الصافي الفنان الذي جعل الجبل يغنّي بالفصحى كما يغنّي الحجر تحت المطر، ووصولًا إلى الصوت الأصيل صباح فخري الذي رفع المقام والموشّح حتى صار الغناء بهما أشبه بطقسٍ سماوي…
فقد كانت لغة الضاد تتجوّل بين هذه الحناجر كما تتجوّل الريح بين أغصانٍ تعرف سرّ النغم.
ومع ذلك، استيقظنا اليوم على مسرحٍ يبدو غريبًا على الفصحى، مسرحٍ فقد تلك الهيبة التي كانت تهزّ الهواء كلما انطلقت كلمةٌ موزونة فوق وترٍ شجي. فلم تغادر الفصحى لأن الزمن تبدّل فقط، بل لأن الجرأة خَبَتْ صوتها… ولأن الشعراء الذين كانوا يشعلون المسارح بكلمة، أصبحوا ندرةً في زمنٍ ازدحمت فيه الأغنية وخفّ وزن الحرف.
فالأغنية الفصيحة لم تكن نشيدًا عابرًا، بل كانت جسرًا بين الذاكرة وعمق الإنسان. وكانت وعدًا بأن اللغة قادرة على أن تبكي وتفرح وتعشق وتتجلّى. ومن هنا تأتي دعوتنا بإعادة الفصحى إلى الضوء ليست عودةً إلى الوراء، بل حمايةً لجزءٍ في داخلنا من أن يتآكل بصمت.
فالفن الذي يخسر لغته يخسر عمقه. والفن الذي هجر الفصحى، هجر معها ظلّها الطويل، وارتضى أن يعيش في لحظةٍ مقتضبة. ومع ذلك، فإن الجمهور رغم انجرافه إلى اللهجات العامية ما زال، في مكانٍ ما من روحه، يحنّ إلى ذلك الصوت الذي يوقظ الشعر الخام ويعيد للغة مهابتها
فالفصحى ليست وزنًا وقافية، بل طقسٌ يعيد ترتيب نبض الإنسان. وهي اللغة التي حين تُغنّى، لا تمرّ عبر الأذن فقط… بل تعبر الوعي كلّه. ولهذا، لا تشيخ الفصحى؛ لأنها متجذّرة في ذاكرةِ تاريخٍ استيقظ على القصيدة وسينام عليها.
فعودة الفصحى ليست رفاهية، بل ضرورة. فالأجيال القادمة تستحق أن تسمع لغتها حيّةً على المسارح، مضيئةً في الألحان، قويةً كما كانت دائمًا. وتستحق أن تعرف أن لغتها لم تُخلق لتكون ذكرى، بل لتكون امتدادًا للفن نفسه.
فالفصحى لا تشيخ… هي فقط تنتظر من يرفعها من جديد. وما يغيب لا يختفي، بل ينهض حين يجد الصوت الذي يليق به.
الكاتب / طارق محمود نواب
الأحد 23 نوفمبر 2025م
للاطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )
