شفرة الثقافة
في إحدى التجارب الاجتماعية أجريت مسابقة بين مجموعة من طلاب رياض الأطفال ومجموعة من الطلاب الجامعيين المتخصصين في إدارة الأعمال والقانون، وكان الهدف من المسابقة بناء أطول برج من عيدان المعكرونة باستخدام شريط لاصق ومجموعة من الخيوط، وعلى غير المتوقع كان طلاب الروضة هم المنتصرين في اغلب المرات التي أجريت فيها المسابقة.
أثارت هذه النتيجة دهشة بترس كيلمان الذي كان يشرف على هذه التجربة ومن بعد عدة تجارب. حيث لاحظ كيلمان أن إجابة تساؤله كانت تكمن في آلية عمل الفرق، فبينما كان الطلاب الجامعيون عادة يقومون بتحليل اللعبة ووضع استراتيجية للعمل ومن ثم تحديد قائد يقوم بتوزيع المهام بين الأعضاء كان طلاب الروضة يتبعون نهجا مختلفا تماما.
بينما كان الأطفال يشرعون في البناء على الفور دون تخطيط أو نقاش وإذا فشلت إحدى محاولاتهم للبناء كانوا يجربون طريقة أخرى وهكذا حتى ينجحوا في نهاية المطاف.
واستنتج كيلمان آنذاك أن نجاح أطفال الروضة لأنهم كانوا يركزون على التعاون والتفاعل لتحقيق الهدف المشترك بدلا من إضاعة الوقت على التنافس فيما بينهم من أجل تأدية المهام بشكل أفضل أو من أجل استلام دفعة قيادة الفريق ويظهر من هذه التجربة أهمية مفهوم ثقافة المجموعة والذي يكمن تعريفه بأنه طبيعة العلاقة والتفاهم بين أعضاء أي مجموعة من الناس تعمل معا لتحقيق هدف مشترك.
حيث يمكنك من خلال العمل مع أي مجموعة من الناس أو مجرد مراقبتهم يعملون أن تقيم ثقافة هذه المجموعة إما إن كانت إيجابية أو سلبية وغالبا ما تفشل الفرق التي لا تمتلك ثقافة واضحة للعمل، ذلك لأن الأفراد فيها يولون اهتمام أكبر للأدوار والمناصب الفردية بدلا من الاهتمام بنوعية العلاقة والتناغم بين أعضاء الفريق ككل فا المستوى الكلي للفريق يرتفع بشكل ملحوظ عندما تسود مشاعر الألفة والانتماء والأمان بين أعضاء الفريق وقادتهم في إحدى الدراسات الاجتماعية.
وقد قام البروفيسور ويل فيليبس من جامعة ساوث ويلس بتوظيف شخص وطلب البروفيسور منه أن يعمل مع عدد من فرق تسويق المنتجات، وكان على هذا الشخص أن يتقمص دور الموظف الكسول البغيض الذي يعرقل أداء المجموعة، ففي معظم التجارب كان سلوكه السلبي معاديا لمن حوله حتى بدأ بعض الموظفين التأثر بتصرفاته في المقابل.
وأظهرت التجارب أن عددا قليلا من الفرق التي عمل بها هذا الشخص كانت لديها مناعة لهذا السلوك السلبي، وبتحليل ثقافة عمل هذه الفرق التي قاومت السلوك السلبي حيث وجد البروفيسور أن أحد أعضاء الفريق كان يحاول معالجة سلوك الشخص السلبي عن طريق بث مشاعر الدفء والإيجابية بين أعضاء الفريق الآخرين، وقد كان هذا العضو دائما ما يذكرهم بشعور الانتماء للفريق ومشاعر الأمان والإيجابية.
وقد ساعد هذا السلوك الإيجابي المعاكس على تلافي الوقوع في فخ الموظف السلبي، فهذه التجربة تؤكد بأن أعضاء الفريق يؤدون عملهم بشكل أفضل عندما يتلقون إشارات تحفز الشعور بالانتماء والأمان ضمن الفريق. فمن أهم أساليب بث مشاعر الأمان هي استماع القائد لأعضاء فريقه في إعداد دراساته وهي ايضا من أهم شفرات الثقافة.
وقد لاحظ العديد من العلماء أنه من أسباب تفوق بعض الشركات على غيرها كانت تتمحور حول طريقة استماع الموظفين لبعضهم البعض. حيث كان الموظفون في هذه الشركات الناجحة يظهرون بشكل واضح اهتمامهم لما يقوله زملائهم.
وقد كانت لغتهم الجسدية وتعابير وجوههم دائما توحي بالإنصات للمتحدث وكانوا دائما يستخدمون عبارات التأكيد أثناء الاستماع مثل صحيح، نعم بالتأكيد وقد كان الأسلوب الآخر لبث مشاعر الأمان والانتماء هو أن يصارح القائد فريقه بنقاط ضعفه الشخصية على الرغم من الاعتقاد السائد بأنه على القائد أن يبهر فريقه بنقاط قوته وكفاءته.
وتتمثل الاستراتيجية الأمثل في كل ذلك هو جعل أفراد الفريق يشعرون بأن للقائد نقاط ضعف لذلك فهو يعتمد على كفاءتهم ويحتاج إلى جهود كل فرد منهم فالمحاكاة طبيعة شائعة عند البشر خاصة عندما يعملون ضمن مجموعات.
وبالتالي فإن مشاركة نقاط الضعف تعد إشارة لأعضاء الفريق بأنهم يستطيعون فعل الشيء نفسه، وهي طريقة رائعة لبناء الثقة فيما بينهم وتوليد إحساس من التقارب والتماسك في الفريق.
ففي عام 1989 تعرضت طائرة داخلية متوجهة إلى شيكاغو لخلل فني أدى لتعطل إحدى محركاتها خلال الرحلة أول ما قام به قائد الطائرة آل هاينز أنه أخبر أعضاء الطاقم جميعا بأنه لا يستطيع إنقاذ الطائرة بنفسه وإنه بحاجة لمساعدتهم جميعا وقد سمح هذا التصرف لأعضاء الطاقم بالقيام بنفس الشيء وطلب المساعدة من بعضهم البعض، وبمجرد أن بدأوا بالعمل شعر كل فرد منهم بالمسؤولية وكذلك الثقة ببعضهم البعض وكانت نتيجة ذلك نجاح الطاقم في الهبوط بالطائرة ورغم أن الحادث تسبب في مقتل مئة شخص من ركاب الطائرة الذين كان عددهم حوالي مئتان راكب إلا أن ذلك كان أشبه بمعجزة حيث أكدت تجارب المحاكاة التي أجراها الخبراء أن فرص نجاة أي راكب كانت أقرب للعدم، فالاستماع للآخرين ومشاركة نقاط الضعف مع أعضاء الفريق من أهم أساليب بث مشاعر الأمان والانتماء ضمن المجموعة، ويتمثل ذلك في التوافق على عدد من المعتقدات والقيم التي تسير عمل أعضاء الفريق ويساعد هذا الشعور المشترك على شحذ الهمم وبلورة الأفكار والسلوك ضمن الفريق للوصول إلى تحقيق الهدف المرجو، ونظرا لأهمية مفهوم الحس المشترك، تحاول الشركات الكبرى غالبا ترسيخ أهدافها ورؤيتها في أذهان الموظفين.
الكاتب / طارق محمود نواب
الخميس 22 أغسطس 2024
للأطلاع على مقالات الكاتب ( أضغط هنا )