المقالات

بكاء إنسان

يمثل اللاوعي الثقافي البنى الجمعية للجذور التحتية الاجتماعية منها والنفسية سواء بسواء، ولها قوة كامنة بالخفاء، لأنه يمثل الذات الإنسانية المستمدة من الذاكرة طويلة المدى في عقل الإنسان. وبكاء الإنسان هو جزء كبير جداً من استقرار العامل النفسي وهدوء العامل العقلي لديه، فالحزن هي حالة من الهم وعدم الارتياح، والقهر هو الغُلب والكسر والهزيمة والرضوخ وقد تحتمل الكثير من المعاني كسر القلب وجرح الفؤاد… إلخ. وفي مجملها جميعاً هي أمر مؤذي للروح سواء كان من نوائب الحياة التي لا يد لنا بها او من عوارض بشر أخرين وضغوطات اجتماعية. التنشئة الاجتماعية هي عملية تحويل كائنات بيولوجية إلى كائنات اجتماعية فهي عملية تطبيع اجتماعي تتواصل عبر سيرورة الأبعاد والانتماءات، “دوركهايم” الفيلسوف وعالم الاجتماع وأول مؤسسي علم الاجتماع الحديث يقول (التنشئة الاجتماعية هي الأفعال التي تمارسها الأجيال الراشدة على الأجيال الصاعدة، بغية إدماجها في النسيج الاجتماعي). في بكاء الإنسان تغلغلت التنشئة الاجتماعية وفرضت قيودها وبشكل الخصوص على الرجل بعبارة (الرجل لا يبكي) وهي من أقسى العوامل النفسية التي يفرض عليها القيد برغم الحاجة المُلحة لروح الإنسان لإخراج عوامل الألم ومنع التراكمات التي تدخل الرجل في زوبعة غير مفهومة من فوضى الصمت والحطام الداخلي التي تؤل إلى أسقام روحية وهو لا يعلم بنفسة اعتقاد منه أنه طبيعي ويحمل قليلا من المآسي وتسمى هذه الحالة (الإكتاب المزيف) وهي الحالة النفسية المشتتة المهمومة ذات المزاج العصبي في ردود الأفعال اتجاه أي موقف لا يستحق ردة الفعل هذه كلها، وعندما تسأل هل أنت فعلاً بخير؟ يجيب أنه بخير ولا يشعر بسوء، وهنا نرى تناقض الرد مع ما بدر من أفعال. الإنسان يتكون من جزئين أساسيين وهي العقل والروح، العقل لا يشعر وهو جزء التفكير والتحليل والادراكات والقرارات والتمعن وشرود الذهن، والقلب لا يفكر وهو جزء العواطف بعمومها من الأمومة والأبوة والحدس والمشاعر. فكل جزء من انبنائية الإنسان مرتبطة بالأخرى ارتباط وثيق فالعقل لا يعمل لوحدة بِلا الروح وإلا سيكون الإنسان وحش عقل مفكر بلا ذرة من الشعور، ولا تعمل الروح بلا العقل وإلا سيكون مرفوع عنه القلم وغير مؤهل لا بدين ولا قانون ولا حياة نظامية. ولذا وجود الجانب العاطفي في الأنسان هو حكم بالضرورة ليكون إنسان طبيعي سوي. الدماغ يتكون من ثلاث شبكات مركزية (شبكة البروز، شبكة الوضع الافتراضي، الشبكة التنفيذية المركزية) في شبكة البروز وهي شبكة ردود الأفعال وأهم جزء لها في الدماغ هو الأميجدال او اللوزة الدماغية حيث أنها مسؤولة بشكل تام في المقام الأول بالعواطف والإنسانية وجزء من خلقة الله في الإنسان لكي يتلقى صدمات نوائب الحياة في تحليله السمعي والبصري ليدرك عقل الإنسان أنه مُصاب بما ليس له فيه حول ولا قوة من الألم النفسي ليتجلى الحزن بالقلب وليتعطى الأميجدال أمر بتفريغ القوى الهدامة الداخلية بالبكاء لتستريح هذه النفس من الهم والكرب والتعامل معها باتزان، ثم يأتي الجانب الاجتماعي ويفرض القيود (الرجل لا يبكي وعيب أن يبكي) ثم يمنع سريان العوامل الحيوية بجسم الإنسان من عصب وإحساس ويتم الكبت الداخلي حتى يتراكم ما فيه ليدخل بعدها حالة من الاكتئاب وهو لا يعلم، الاكتئاب يتحول إلى قهر وصدمة متأخرة وضغط نفسي مما يؤدي إلى حالة اضطراب كرب ما بعد الصدمة وهي: (المرور بكدر أكبر، الفقر وتدني المستوى الاجتماعي والاقتصادي، اضطراب التنظيم الوجداني، الخلافات العائلية، اضطراب الأنية وتبدد الواقع) وفي جانب الفقر وتدني المستوى الاقتصادي والاجتماعي هو بسبب الذات الحزينة والعقل المشوش بذات الموقف المكبوت الذي أهدر وقته بعيد عن تنمية الذات، واضطراب الأنية ينتمي اضطراب الانية (Depersonalization-derealization disorder-DDD) إلى مجموعة من الاضطرابات تسمى الاضطرابات الانشقاقية، وهي أمراض عقلية تتضمن الإصابة باضطرابات في الذاكرة والوعي والإدراك والشعور والهوية، وهذا قد يعيق الأداء الوظيفي للشخص في حياته اليومية، وتبدد الواقع هو تغيير في إدراك الواقع المحيط حيث يبدو العالم الخارجي كعالم غير حقيقي. وتختلف تأثيرها من فرداً إلى آخر. وفي الشبكة التنفيذية المركزية هي رصد وتدفق الخبرة من لحظة إلى أخرى التي تضلع باختيار الأهداف والتخطيط والتنفيذ واتخاذ القرارات وهي الذاكرة العامة التي تساعد على انتقاء المفاهيم القيم والمبادي والتوجيه والاحتفاظ ومن هنا يرتبط بالروح، فكلما الروح عاشت تراكمات الضغوط النفسية بلا بكاء زادت قرارة العقل بتبني الاضطرابات وفي هذا الجزء يتكون الذات الإنسانية لكل إنسان. والذات هي البنية التحتية للقيم والأخلاق. فضلاً أن الاضطرابات النفسية والعصبية تسبب اضطرابات في وظائف الأعضاء وقد تصل إلى مستوى حاد في اضطرابات وظائف الأعضاء. قالت “تشارلوت براونتي” روائية وشاعرة إنجليزية (البكاء لا ينم عن ضعف، فالبكاء منذُ لحظة ولادتك يدل أنك على قيد الحياة). وأنت لست ميت لكيلا تبكي.

 

بقلم الكاتبة / عهود الغامدي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى